بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
حديث القرآن عن القرآن (2)
ومن حديث القـرآن عن القـرآن ما تضمنه قولـه تعالى في سـورة البقرة ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) ﴾
[ سورة البقرة : 38 ـ 39 ]
والقرآن الكريم قد أنزله الله هدى للناس . وهو بهذا ليس بمعزل عن قوة تحقق وعده ووعيده . إنه الحق من ربك، وللحق نور ونار فمن أبى النور فالنار موعده. وذاك بيان وبلاغ من الله بذكر النتائج والعواقب لمن تبع هدى الله ومن جحد وأعرض ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) ﴾
إن في اتباع هدى الله أمن وأمان . أمن لا خوف معه ولا حزن ﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ والخوف غم يلحق بالإنسان من توقع أمر في المستقبل . والحزن غم يلحقه من فوات أمر في الماضي . والمتبعون هدى الله مبشرون بذلك عندما يفزع الناس و يخافون . وذاك وعد الله لهم ـ
ولن يخلف الله وعده ـ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) ) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) ﴾ [سورة فصلت : 30 ـ 32 ]
ذاك ما يكون لمن اتبع آيات الله فآمن واستقام، وأما من أعرض وكذب وكفر وأصر على كفره وجحوده ـ من بعد ما تبين له الهدى ـ فتلك عاقبته وذاك مصيره ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) ﴾.
وفي إسناد الآيات إلى نون العظمة في قوله ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ﴾ دلالة لا تغيب على أن هدى الله ليس بمعزل عن قوة تحقق الوعد والوعيد، وأن المعرضين عن هدى الله مؤاخذون، وترى نون العظمة هذه في تنزيل الذكر وحفظه ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [ سورة الحجر : 9 ] وفي مؤاخذة المكذبين بآياته المعرضين عن ذكره ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا(13) ﴾ [ سورة المزمل : 11 ـ13 ]
ومن عرف أن القوة لله جميعا، وأن الله شديد العذاب أيقن أن حديث القرآن عن وعد الله ووعيده لمن اتبع هدى الله ولمن كذب بآياته سيأتي تأويله وعندئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا .﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) ﴾ [ سورة الأعراف : 52 ، 53 ]
ومن حديث القرآن عن القرآن ما تضمنه قوله تعالى في مواجهة بني إسرائيل أولئك الذين واجهوا الدعوة الإسلامية في المدينة مواجهة نكرة وقاوموها مقاومة خفية وظاهرة ـ ﴿ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) ﴾ [ سورة البقرة : 41 ]
لقد كان المنتظر أن يكون اليهود في المدينة هم أول من يؤمن بالرسالة، ويؤمن للرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن يصدق ما جاء في التوراة ، وهم يتوقعون رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعندهم أوصافه في البشارات التي تتضمنها التوراة . وهم كانوا يستفتحون على العرب المشركين ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) ﴾
إن الله يأمرهم أن يؤمنوا بما أنزل من القرآن لأن الإيمان به إيمان بما معهم والكفر به كفر بما معهم من التوراة، بل بالكتب والرسل جميعا، وهم دعاة إلى دين واحد . وقد أخذ الله عليهم الميثاق أن يؤمن بعضهم ببعض، وأن ينصر بعضهم بعضا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم :« لو كان أخي موسى حيًّا ما وسِعَه إلا اتِّباعي »حسنه الألباني
﴿ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ﴾
إن من الواجب أن يكونوا أول من آمن به لا أول من كفر .
لأنهم أهل النظر في معجزاته، والعلم بشأنه، وقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين كفروا ويبشرون ﴿ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ أي لا تستبدلوا بآياتي التي في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثمنا قليلا والدنيا كلـها ثمن قليل .
لقد كان كعب بن الأشرف ورؤساء اليهود وعلماؤهم يصيبون المآكل من سفلتهم وجهالتهم، وكانوا يأخذون منهم في كل سنة شيئا معلوما من زرعهم وثمارهم ونقودهم ، فخافوا أنهم إن بينوا صفة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وتبعوه تفوتهم تلك الفوائد ، فغيروا نعته بالكتابة فكتبوا في التوراة بدل أوصافه أضدادها .
وكانوا إذا سئلوا عن أوصافه كتموها ولم يذكروها . وقد أشار القرآن الكريم إلى التعبير بالكتابة بقوله ﴿ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ وقوله ﴿ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ﴾ وأشار إلى الكتمان بقوله ﴿ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ . وقد جمعوا بين الفعلين التغيير والكتمان . وهم يعلمون أنهم ينكرون الحق ويؤثرون الباطل . وقد فصّل القرآن ذلك في مواطن كثيرة .
هذا ما كان من رؤساء اليهود وعلمائهم و « لو آمَنَ بي عَشرةٌ منَ اليهودِ لآمنَ بيَ اليهودِ»صحيح البخاري، كما جاء فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ونحن حين نقرأ حديث القرآن عنهم، ونتدبر ما جاء في شأنهم نعرف حقيقتهم، وما يريدون، فما كان اليهود يجهلون بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أو يمتارون في معرفته ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة .
لقد تواترت الأخبار باقتراب زمانه ، وغدا الناس يرقبون مبعثه ، كما يرقب من أظلم عليه الطريق مطلع الفجر وانطواء الليل ليمضي إلى قصده ويصل إلى مأمنه على نور وبصيرة، ولا يلتبس الفجر على من كان ذا بصر و بصيرة ، ولا يختلط إشراق الشمس بظلام الليل، ولا يستوي الهدى والضلال ، كما لا تستوي الظلمات والنور .
إن القوم قد عرفوا ولكنهم جحدوا ، وهدوا ولكنهم استحبوا العمى على الهدى ، وجاءتهم الآيات البينات فضلوا وأضلوا من بعد ما جاءهم البينات .
ولكن لا يخلو زمان من أهل إنصاف و عدل ، فمن اليهود ناس عرفوا فلزموا وهدوا فأسلموا ، وحفظوا ما في التوراة فشهدوا بما علموا ، ووجدوا في الرسول صـلى الله عليه وسلم مصداق ما حفظـوا ﴿ أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [ القصص : 54 ] .
ولقد تناقل الربانيون والأحبار والقسيسون والرهبان ما وجدوه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وبُلِّغوه من أنبيائهم وكانوا عليه شهداء .
وظلت البشرى بمبعثه صلى الله عليه وسلم تنتقل من جيل إلى جيل ومن قبيل إلى قبيل، والنبأ العظيم يتردد بين الناس، والزمن يقترب حتى رأينا شابَّاً كسلمان الفارسي يدع ما هو فيه من رغد العيش، ويتنقل من دار إلى دار ، ومن حال إلى حال ، ويلاقي ما يلاقي طلبا للحق الذي دخل زمانه واقترب فجره، وهو يحفظ من الرهبان الذين انتقل بينهم، وعاش معهم، وكان في خدمتهم ، ويحفظ عنهم موطن هجرته صلى الله عليه وسلم وصفات خَلْقِه وخُلُقه، ويحدث حين أسلم بكل ما جرى معه .
فالأمر لم يكن خافيا ، وأكثر الناس عِلماً به هم علماء أهل الكتاب من الربانيين والأحبار والقسيسين والرهبان الذين كانوا يبشرون باقتراب زمانه ويستفتحون . فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب أنكر علماؤهم ما عرفوا، وكتموا ما أنزل الله من البينات والهدى ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾
ذاك حديث القرآن عنهم، وفيه عبر وعظات لمن اتعظ واعتبر.
وسيظل حديث القرآن عن القرآن، وبيان موقف الناس منه حجة على من كذب وأعرض، وهداية لمن اهتدى وصدّق . مخاطبا بذلك الأجيال كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ﴾ .
والله اعلم